الإيمانُ بالله تعالى: هو الاعتقاد الجازم الذي لا يتطرقُ إليه شك بأن الله – عز وجل – ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكه، وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه وأن يُفردَ بالعبادة مع كمال المحبة والذُّلِّ والخضوع، وأنه المتّصف بصفات الكمال فله الأسماءُ الحسنى والصِّفاتُ العُلا، وهو سبحانه منزَّهٌ عن كل عيب ونقص.
فظهر من ذلك أن الإيمان بالله – عز وجل – يتضمنُ أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجود الله – عز وجل -، وقد دلّ على ذلك الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.
1 – أما دلالة الفطرة على وجوده، فإنَّ كلَّ مخلوقٍ قد فُطِر على الإيمان بخالقه من غير تفكير أو تعليم؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه)).
2 – أما دلالة العقل على وجود الله – عز وجل -؛ فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق أوجدها على هذا النظام البديع؛ ولهذا ذكر الله هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي فقال – عز وجل -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ*أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} ، ولما سمع جُبير بنُ مُطعِم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه الآيات وكان مشركًا قال: ((كاد قلبي أن يطير وذلك أولُ ما وقر الإيمان في قلبي)).
3 – أما دلالة الشرع على وجود الله – عز وجل -؛ فلأن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية تنطق بذلك.
4 – أما دلالة الحِسّ على وجود الله – عز وجل – فمن وجهين:
(أ) أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين وغوث المكروبين ما يدل دلالة قاطعة على وجود الله – عز وجل -، قال – سبحانه وتعالى -: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}، وغير ذلك.
وفي صحيح البخاري عن أنس – رضي الله عنه – أن رجلاً أعرابيًّا دخل يوم الجمعة والنبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيالُ فادعُ الله يغيثنا، فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) قال أنس – رضي الله عنه -: فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحابُ أمثالَ الجبالِ، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته، فمطرنا فوالله ما رأينا الشمس سبتًا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – قائم يخطب فقال: يا رسولَ الله، هلكت الأموال وانقطعت السُّبُلُ فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا))، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت.
(ب) أن آيات الأنبياء التي تُسمَّى المعجزات دليل قاطع على وجود الله – عز وجل -؛لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر يجريها الله تأييدًا لرسله ونصرًا لهم.
الثاني: الإيمان بالربوبية، وأن الله – عز وجل – هو الرب الخالق، المالكُ المدبر، قال – عز وجل -: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، ولم يُعلم أن أحدًا من الخلق أنكر ربوبية الله – سبحانه وتعالى – إلا أن يكون مكابرًا، قال – عز وجل – عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، وهذا توحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بأفعاله.
الثالث: الإيمان بالألوهية، وأن الله – عز وجل – هو الإله الحق المستحق للعبادة دون ما سواه؛ لكونه خالق العباد والمحسن إليهم، والقائم بأرزاقهم، والعالم بسرهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم، وعقاب عاصيهم؛ ولهذه العبادة خلق الله الثقلين، قال – عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، وقال – عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقد أرسل الله – عز وجل – الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا التوحيد ((توحيد العبادة)) والدعوة إليه، قال – عز وجل -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}، وقال – عز وجل -: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وكل من اتخذ إلهًا من دونه فإلهيته باطلة، قال – عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، وقال – عز وجل -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقد أبطل الله – عز وجل – اتخاذ المشركين آلهة من دونه فبيّن ضَعفَها من كلِّ وجه، فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، فالعبادة حق الله – عز وجل -؛ ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ – رضي الله عنه -: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)) ، وهذا كله: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
الرابع: الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا:
أهل السنّةِ والجماعة يُثبتون ما أثبتَهُ الله – عز وجل – لنفسه، وما أثبتَه له رسولُهُ – صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ويُمِرّونها كما جاءت مع الإيمان بما دلّت عليه من المعاني العظيمة، فكل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسولُهُ من جميع الأسماء والصفات أثبتوه على الوجه اللَاّئق به تعالى، إثباتًا مفصلاً على حدِّ قوله سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وينفون عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله – صلى الله عليه وسلم – نفيًا إجماليًّا غالبًا على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} والنفي يقتضي إثباتَ ما يُضادُّه من الكمال، فكل ما نفى الله عن نفسه من النقائص فإن ذلك يدل على ضِدِّهِ من أنواع الكمال، وقد جمع الله النفي والإثبات في آية واحدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فهذه الآية تضمنّتْ تنزيه الله من مُشابَهةِ خلقه: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وفي أولها ردٌّ على المشبِّهَةِ وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وفي آخرها ردّ على المعطلة وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وفي أولها نفي مُجمل، وفي آخرها إثبات مفصل. وقال الله – عز وجل -: {فَلَا تَضْرِبُواْ لله الأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأتباعهم بإحسان. نَقَلَها عنهم أئمةُ أهل السُّنّةِ، قال الوليد بن مسلم رحمه الله: سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقالوا: ((أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف)) ، وقد ذكر أهل السنة كلام الأئمة على قوله – عز وجل -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن ذلك يدل على علوِّ الله على خلقه كما قال – سبحانه وتعالى -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، وقال – عز وجل -: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً}، قال أبو القاسم اللالكائي رحمه الله: ((فدلت هذه الآية أنَّهُ تعالى في السماء وعلمه مُحيطٌ بكلِّ مكان من أرضه وسمائه، وقال: وروى ذلك من الصحابة: عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأمُّ سلمة – رضي الله عنهم -، ومن التابعين ربيعةُ بن أبي عبدالرحمن، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وبه قال من الفقهاء مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل.
وسئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ومِنَ الله الرِّسالة، وعلى الرَّسول البلاغ، وعلينا التَّصديق)) ، وقال رجل للإمام مالك رحمه الله: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: ((الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاًّ وأَمَر به فَأُخرِج)).
وقيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله: الله – عز وجل – فوق السماء السابعة على عرشه بائنٌ من خلقه، وقدرتُه وعلمه في كل مكان؟ قال: ((نعم على العرش وعلمه لا يخلو منه مكان)) ، وفي رواية: ((أنه سئل عن قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} فقال الكلام السابق.
وهذه النقولات تدل على أن أهل السنة يثبتون الأسماء والصفات وما دلَّت عليه من المعاني العظيمة مع إمرارها كما جاءت بلا كيف. والمعيَّة معيتان: معيَّة عامة لجميع الناس، ومعيَّة خاصة تقتضي التوفيق.
PDF